خيار عباد الله
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أربع من كن فيه، كان من خيار عباد الله: من فرح بالتائب، واستغفر للمذنب، ودعا المدبر، وأعان المحسن".
حقا، إنها لصورة حية لخيار عباد الله، يرسمها رجل من خيار عباد الله، إن الرجل من خيار عباد الله عند أبي بكر رضي الله عنه هو من اجتمعت فيه أربع خلال كلها تهدف إلى شيء واحد نبيل، هو نفع عباد الله من الجانب الأسمى، وهو الجانب الروحي الديني.
ولا شيء يتقرب به إلى الله تعالى -بعد توحيده- كنفع عباده، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله"، ولا سيما من ناحية تهذيب طباعهم، وتقويم أخلاقهم، والسمو بأرواحهم، فتلك أكبر ناحية جاء الإسلام لتكميلها، حتى قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
الأولى من الأربع: أن تفرح بالتائب
تفرح بنجاته من سخط الله وتحرره من عبودية نفسه وهواه، وخلاصه من شقاء دنياه وأخراه، وإن في الفرح بالتائب لدليلًا على كرم العنصر، وطهارة القلب، وحب للإنسانية وحرص على خيرها وسعادتها، ولا يفرح بالتائب إلا الذي يرى في توبة المذنب أخا جديدا يكسبه ويدخل في خضيرته، ويكثر به عدد إخوانه في الله.
كيف لا يفرح المؤمن بما يفرح به ربه؟ ففي صحيح مسلم عن الحارث بن سويد قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ".
والتوبة مطهر فيجب أن تتجدد كلما تجدد الذنب، فإن تأخرت وجبت التوبة من هذا التأخر الذي يعتبر ذنبا آخر، لأن الذنب إذا ترك بدون توبة، كالوسخ الذي يظهر بالثوب فلا يطهر منه، حتى يكثر ويؤثر في الثوب بالبلى، لأن الذنوب إذا تراكمت على القلب تكون منها غشاء عليه يحول دون إحساسه وتأثره بأدوية القلب، وهو الذي سماه القرآن بالران، في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. ومن هنا يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
ومن رحمة الله بنا، أننا نذنب فإذا تبنا، تاب الله علينا، فكأننا لم نذنب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"؛ لأن الله لم يجعل من طباعنا العصمة من الخطيئة لأننا لسنا ملائكة، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} وإنما نحن بشر معنا أهواؤنا وضعفنا، بل إنه صلى الله عليه وسلم يقول: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
الثانية من الأربع: الاستغفار للمذنب
وهنا تأتي الثانية من هذه الأربع: وهي الاستغفار للمذنب، فإن الأخوة الدينية تقتضيك أن ترحم أخاك المريض كما تفرح بأخيك الصحيح، والمذنب هو أخوك المريض الذي ضعف عن مقاومة هواه، فإن هذا أحق بأن يهمك وأحرى بأن تعني به، وإن أقل ما تستوجبه رحمتك بأخيك المذنب أن تستغفر له، كما أن أقل ما تستوجبه رحمتك بأخيك المريض أن تدعو له، وإذا كانت التوبة مطهرا، فإن الاستغفار -كذلك- طلبك من الله تطهير من عجز عن تطهر نفسه.
وإن الله قد أباح لنا أن نستغفر لإخواننا، بل إن الإسلام يعتبر الاستغفار عبادة، إذ ليس الاستغفار إلا دعاء، والدعاء مخ العبادة، كما في الحديث، ومن صفات كماله تعالى، أنه غفار يغفر كل ما دون الإشراك به، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، ولكن حذار ثم حذار من الاقتصار على الاستغفار، بل تجب مضاعفة الجهد في إنقاذ الغرقى، غرقى الذنوب والآثام، وإخراجهم إلى ساحل الحياة، بالمواظبة على الإرشاد والتذكير، والإنذار والتبشير.
الثالثة من الأربع: دعوة المدبر
وهنا تأتي الثالثة من هذه الأربع: وهي دعوة المدبر أن يقبل والمتخلف أن يلحق والمسيء أن يحسن، وهذا أهم جانب في الموضوع، فإن المسلم جنده الله للدعوة وجعلها مناط شرفه ومعقد عزه بمجرد انتسابه إلى هذه الأمة إذ قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فهو لم يقرن بالدعوة غير الإيمان فالدعوة إلى الله والإيمان بالله، شرطان أساسيان لبقاء هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس كما أراد لها الله، وشيئان متلازمان للجندية الإسلامية الحازمة القوية.
ومن هنا نعلم أنه ما أدبر المدبر وتخلف السابق وأساء المحسن وسادت الفوضى في المجتمع الإسلامي، إلا بسبب ما أصاب هذا الجانب الأهم جانب الدعوة الرشيدة الحازمة من ضعف وفتور، بل من موت ودثور، فيجب إذن أن نضاعف الجهود لتقوية هذا الجانب وتجهيزه بكل ما يلزم له من أدوات ليقبل المدبر، ويلحق المتخلف، ويحسن المسيء، ويجتمع شمل المجتمع المبدد ويتلاقي قطيعه المشرد، ثم هذا الجانب، فأقبل المدبر ولحق المتخلف وأحسن المسيء، وجب الاحتياط لهذا المطيع والسهر على حفظه ورعايته، حتى لا يشرد مرة أخرى.
الرابعة من الأربع: إعانة المحسن
وهو المراد من الصفة الرابعة والأخيرة لخيار عباد الله، فليس من الحكمة أن تجهد، وتنصب مما تنصب للعثور على ضالتك حتى إذا عثرت عليها وأظفرك الله بها، فرطت فيها وتركتها للضياع مرة أخرى.
وهكذا خيار عباد الله يقضون أعمارهم في نفع عباد الله، ليفوزوا بالكنز الذي لا يفنى، وهو محبة الله الموعود بها في قوله عليه الصلاة والسلام: "الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله".
فكن أيها المسلم نفَّاعًا إنسانيًا، ولا تكن انتفاعًا أنانيًا، فليس أسمى من رسالة النفع العام، التي جاء بها الإسلام، ولا أحط دركة من الانتفاعيين الأنانيين الذين لا يحسون إلا بوجودهم، ولا يعملون إلا لحسابهم.
======
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا