(10)
القسم على وجه التقديس للمقسم به
تقدم الحديث عن دواعي توثيق أقوالهم ، فربما دعتهم تلك الدواعي إلى مبالغة الاستيثاق والمغالاة فيه ، فكانوا يجتمعون للمعاهدة بمشهد معابدهم. وبذلك خلطوا بالقسم جهة دينية ، وأرادوا به جعل الرب شاهداً على قولهم ، فإن كذبوا فيما أقسموا عليه أسخطوه.ولما كانت دائرة حكومتهم ضيقة ، ولم تفرق الأمم المتجاورة حدود فطرية كالجبال الشامخة ، والبحور المتلاطمة ، لم يمنع الجيران عن الاقتتال غير المعاهدة ، فصارت هي أحصن معاقلهم.وربما اتفقت أقوام لم تجمعهم أواصر القرابة على خلاف عدو ، فعاهدوا على التعاون. فأيما كان من سلم أو حرب ، إذا عظم أمرها فزعوا إلى العهد ، ولذلك ترى إبراهيم عليه السلام لما هاجر قومه ، وسكن في بلاد العرب ، ورآه أبو ملك ذا بأس ومنعة ، هابه واستعظمه فعاهد به على رسم خاص ، لكيلا تكون بينهما حرب ، وصارا حليفين بهذه المعاهدة.والتاريخ شاهد بعظم مكانة المعاهدة في التمدن ، حتى ترى الآن اعتصام الأمم العظيمة بها. والعرب كانوا في جاهليتهم أشد الأمم بأساً وألدهم خصاماً ، كما أنهم أبرهم ميثاقاً وأوفاهم ذماماً. وكانت الكعبة أعظم معاهدهم. وحرماتها أكبر وازع لهم عن الحرب ، فتطفأ نارها في شهور الحج ، ويأتون إلى الكعبة من كل فج محرمين راهبين مختلطين في غاية الأمن ، كالخرفان بعد أن كانوا أسوداً ضارية. وذلك كله من تعظيمهم للكعبة ، حتى إنهم سموا مكة صلاحاً وأم الرحم ، فإذا حاولوا توثيق عهد جاءوا إلى هذا المعبد ليقسموا بالله العظيم على مواثيقهم.ومن شركهم ربما أقسموا عند أنصابهم التي ذبحوا عليها لشفعائهم عند الله الأكبر.وكانوا يقسمون : إما بإهراق القربان ، أو بمسح الكعبة كما ستعلم مما ذكروا في أشعارهم ، أو بغمسهم أيديهم في عطر ومسح الكعبة بها ، كما ترى في حلف المطيبين الذي كان قبيل البعثة ، حين أرادت بنوعبد مناف أن يجمعوا أمرهم ، فوضعوا جفنة طيب لأحلافهم عند الكعبة ، فغمس القوم أيديهم فيها ، ثم مسحوا بها الكعبة ، فسموا المطيبين. وكان النبي e وأبو بكر رضي الله عنه منهم. أو بمجرد شهودهم عند البيت وعقدهم أيمانهم لديه.فهذا أصل قسمهم الديني ، ثم توسعوا فاكتفوا بمجرد ذكر الكعبة ومشاعر الحج ، كما سترى التصريح به في بعض هذه الأمثلة التي نذكرها.قال زهير بن أبي سلمى :فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
وقال أيضاً:فتجمع أيمن منا ومنكم بمقسمة تمور بها الدماء
وقال أعشى قيس:فإني وثوبي راهب الحج والتي بناها قصي وحده وابن جرهم
وقال أيضاً:حلفت له بالراقصات إلى منى إذا مخرم خلفته بعد مخرم
وقال الحارث بن عباد:كلا ورب الراقصات إلى منى كلا ورب الحل والإحرام
وقال النابغة الذبياني :فلا لعمر الذي مسحت كعبته وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير تمسحها ركبان مكة بين الغيل والسعد
ما قلت من سيء مما أتيت به إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي
إذا فعاقبني ربي معاقبة قرت بها عين من يأتيك بالفند
وقال شأس أخو علقمة الفحل:حلفت بما ضم الحجيج إلى منى وما شج من نحر الهدى المقلد
وقالت غنية الأعرابية تصف ابنها :أحلف بالمروة يوماً والصفا أنك خير من تفاريق العصا
وأما حلفهم بالأنصاب فمنه قول المهلهل:كلا وأنصاب لنا عادية معبودة قد قطعت تقطيعا
وقول طرفة :فأقسمت عند النصب أني لهالك بمتلفة ليست بغبط ولا خفش
وقول الملتمس :أطردتني حذر الهجاء ولا والله والأنصاب لا تئل
وقال رشيد بن رميض العنزي :حلفت بمائرات حول عوض وأنصاب تركن لدى السعير
والقسم بالأنصاب قليل جداً فكان جل أقسامهم المؤكدة بالكعبة ومشاعر الحج. فإن العرب مع اختلاف دياناتهم في الجاهلية لم يختلفوا في تعظيم هذا البيت العتيق . وعلموا أنه أول بيت الله الذي وضع للناس ، حتى إنك ترى النصارى منهم كانوا يقسمون به. قال عدي بن زيد وقد تنصر في الجاهلية :سعى الأعداء لا يألون شراً عليك ورب مكة والصليب
وقال الأخطل وكان مجاهراً بنصرانيته :حلفت بمن تساق له الهدايا ومن حلت بكعبته النذور
وقال أيضاً:لقد حلفت بما أسرى الحجيج له والناذرين دماء البدن في الحرم
وقال أيضاً:إني حلفت برب الراقصات وما أضحى بمكة من حجب وأستار
وبالهدي إذا احمرت مذارعها في يوم نسك وتشريق وتنحار
فترى مما ذكرنا أنهم إذا اجتهدوا بالقسم حلفوا بالكعبة ومشاعر الحج. وبذلك جاء التصريح منهم ، قال حسان بن ثابت الأنصاري فيما قال قبل إسلامه:إني ورب المخيسات وما يقطعن من كل سربخ جدد
والبدن قد قربت لمنحرها حلفة بر اليمين مجتهد
وقال عارق الطائي:فأقسمت جهداً بالمنازل من منى وما سحقت فيه المقادم والقمل
وبقي بعد ذلك في الإسلام. قال الفرزدق:ألم ترني عاهدت ربي وإنني لبين رتاج قائماً ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسملاً ولا خارجا من في زرو كلام
وقال الحطيئة :لعمر الراقصات بكل فج من الركبان موعدها مناها
فتلك جل أقسامهم الدينية ، ولا يخفى عليك أنهم لم يريدوا بها إلا إشهاد الإله المعبود الذي جعلوه شاهداً ، وبذلك جعلوه وكيلاً وكفيلاً على العقود. ومرادهم أنهم إن كذبوا بعد ذلك أسخطوا الله ، كما صرح به النابغة في أبيات مرت في هذا الفصل.وأما مراد الصلحاء من إشهاد الله تعالى فليس إلا اعتمادهم وتوكلهم على ربهم ، وإظهار جدهم في شهاداتهم ، كما سترى في أمثلة تجدها في آخر هذا الفصل.وإنما ذكرت العرب في أيمانهم الكعبة والنحر عندها ومسحها تأكيداً لمعنى الإشهاد وإشارة إلى طريق قسمهم بالإله عند بيته. ولذلك ترى زهيراً يسمي المنحر (مقسمة) وأنه هناك تجمع أيماننا. وإذا كان القسم بمحض اسم الرب عاماً ، لا ينتبه له بينوه بذكر أصله ، وصوروه ببيان شكله ، ليكون أوقع في القلب.وهذا المراد الذي فهمنا من أحوالهم وأشعارهم يؤيده تصريحهم بإشهاد الله تعالى في أيمانهم. فيقولون والله شهيد) ، (والله يعلم) أو ما يشبهه ، كما قال عمرو بن معد يكرب:الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وقال الحارث بن عباد:لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرها اليوم صال
أو كما صرح النابغة الذبياني في ذكر قصة الحية وحليفها الذي لدغت ابنه فمات ، ثم صالحته على أن تعطيه دية ابنه. فلما كاد الرجل أن يستوفي الدية هم بقتلها ، ولكن وقاها الله ضربته ، فحينئذ دعاها للعهد مرة أخرى. فذلك يذكر النابغة بقوله:فقال : تعالي نجعل الله بيننا على ما لنا أو تنجزي لي آخره
فقالت يمين الله أفعل إنني رأيتك مسحوراً يمينك فاجره
أو كما صرح به النبي e في خطبة البلاغ ، فقال بعد ما بلغهم عوازم الأمور ألا هل بلغت اللهم اشهد). فجعل الرب شاهداً على ما عاهدهم به.أو كما قال حين رجع إليه ابن اللتبية الأزدي ، وقد استعمله على الصدقة ، وأخذ الهدايا ، فأسخط النبي e. فبعد ما أخبرهم النبي e بتبعات الغلول رفع عليه السلام يديه إلى السماء ، وقالاللهم هل بلغت) ثلاث مرات. فهذا رفع اليد كان لإشهاد الله تعالى على ما قال. كأنه قال : اللهم اشهد.وهكذا نرى إشهاد الله برفع اليد إلى السماء في قصة إبراهيم عليه السلام. جاء في سفر التكوين ص 14 عدد 22 :(فقال إبرام (إبراهيم) لملك سدوم رفعت يدي إلى الرب الإله العلي مالك السماء والأرض ، 23 لا آخذن لا خيطاً ولا شراك نعل ، ولا من كل ما هو لك).أي أقسمت بالله على ذلك وأشهدته وعاهدته.ورفع اليد في الصلاة للعهد والشهادة وتفصيل ذلك في كتاب (أصول الشرائع).أو كما صرح به القرآن في غير موضع. وقد مر أمثلته في الفصل الثامن. وجملة الكلام أن الأيمان الدينية أيضاً أصلها الإشهاد. وإنما اختلط بها معنى التعظيم من جهة المقسم به ، لامن جهة محض الإشهاد الذي هو أظهر معنى القسم بالشيء.ويتضح هذا الأمر من نوع آخر من أقسامهم التي أشهدوا فيها بالمقسم به على وجه الاستدلال لا غير. وهو مسلك لطيف من البلاغة. ونذكره في الفصول الآتية. (11)
القسم على وجه الاستدلال بالمقسم به
قد تبين مما ذكرنا أنهم كانوا يقسمون بالشهادة من أنفسهم أو بالشهادة بالله تعالى. وإذ كانت الشهادة بالله أكبر الشهادات ، كثر القسم بها ، ولذلك ظن من قل التفاته إلى أساليب الكلام وفنون بلاغته أن الإشهاد لا يكون إلا بالمعبود وعلى جهة التعظيم.ولكنك إذا سرحت النظر في كلام العرب وغيرهم وجدت أنهم ربما أشهدوا بأشياء لم يعبدوها ولا عظموها. وإنما أرادوا الاستدلال بجعل المقسم به شاهداً على أقوالهم. بل ربما تجمع جهة الاستدلال بالأقسام الدينية أيضاً. وسيأتيك ذكره في الفصل الخامس عشر.وأما هاهنا فإنما نذكر أمثلة القسم الاستدلالي ونوضح مفهومه. فمنها ما قال أبو العريان الطائي يمدح حاتماً الجواد:قد علموا والقدور تعلمه ومستهل الغرار مطرد
أن ليس عند اعترار طارقها لديك إلا استلالها مدد
ومنها ما قال الراعي :إن السماء وإن الريح شاهدة والأرض تشهد والأيام والبلد
لقد جزيت بني بدر ببغيهم يوم الهباءة يوماً ما له قود
ومنها ما قال النابغة الذبياني :والخيل تعلم أنا في تجاولنا عند الطعان أولو بأس وإنعام
ومنها قول عنترة :والخيل تعلم والفوارس أنني فرقت جمعهم بطعنة فيصل
فقد رأيت في هذه الأمثلة أنهم أشهدوا بالقدور ، والمدية ، والسماء والريح ، والأرض ، والأيام ، والبلد ، والخيل ، والفوارس. وليس المراد إلا أنك لو سألتهن ونطقن لشهدن على دعوانا.ومن هذا الأسلوب ما قال الفضل بن عيسى بن أبان في وعظهسل الأرض ، فقل : من شق أنهارك وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً ، أجابتك اعتباراً).ولعل هذا الكلام مأخوذ من صحف أيوب عليه السلام ، قال ص 12 عدد 7-10 فاسأل البهائم فتعلمك ، وطيور السماء فتخبرك ، أو كلم الأرض فتجيبك ، ويحثك سمك البحر. من لا يعلم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا. الذي بيده نفس كل حي وروح كل إنسي).ومثل هذا ما جاء في صحف موسى عليه السلام سفر التثنية ص 30 عدد 19 أشهد عليكم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت ، والبركة واللعنة ، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك).فأراد بهذا الإشهاد أن عهدي هذا بكم لا يؤخذ سراً بل نجعله مشهوداً ومشتهراً ، فإن نقضتموه لزمكم عاره دائماً أبداً. فمتى ما أظلتكم السماء وأقلتكم الغبراء جاءتكم اللعنة والعذاب من فوقكم وتحتكم. فضرب السماء والأرض مثلاً لدوام ولزوم ذلة النقض ، فكأنه عليه السلام أقام عليهم شاهدين لا يفلتون منهما أبداً وآيتين لا تغربان عنهم.ومما يجلو الشبهة عن القسم الذي يشهد فيه بما ينطق بلسان الحال أنهم كما أشهدوه بكلمة (يشهد) و(يعلم) أو ما يشبههما ، فكذلك أشهدوه بكلمات خصت بالقسم ، أو نصت له مثل : واو القسم (لعمري) أو ما يشابههما.فإن لم يطمئن قلبك بالأمثلة السابقة ، فدونك أقسام صريحة بأمور ناطقة بلسان الحال. فمنها قول عروة بن مرة الهذلي :وقال أبو أمامة يال بكر فقلتُ : وَمَرْخَةٍ دعوى كبير
يستهزئ الشاعر بأبي أمامة على استغاثته بقبيلة بكر. فقال :هذه دعوى كبيرة ، أي ما أصغر من يدعوه لنصره!! فأقسم بشجرة صغيرة لا تؤوي من يلوذ بها ، وضربها مثلاً لأضعف الأشياء ملاذاً ، ويتضح هذا المعنى مما قال أبو جندب الهذلي :وكنت إذا جار دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري
فلا تحسبن جاري لدى ضل مرخة ولا تحسبنه فقع قاع بقرقر
ومنها قسم الهجرس حين قتل جساساً قاتل أبيه ، فقال:(وفرسي وأذنيه ، ورمحي ونصليه ، وسيفي وغراريه ، لا يترك الرجل قاتل أبيه ، وهو ينظر إليه ).فأقسم بهذه الأشياء استدلالاً بها ، كأنه قال: فكيف أترك قاتل أبي ؟ وأنا قادر على الكر والفر والطعن والضرب.فذكر في قسمه ما يصدق دعواه ، ويستدل بها على وجوب ما أراد به ، ومنها قسم طرفة :وقربة ذي القربى وجدك إنني متى يك أمر للنكيثة أشهد
أراد أنه كيف لا يشهد مجلس ذوي القربى إذا اجتمعوا لأمر كبير ، ولا يراعي منزلة الرحم ، وهي عظيمة عندهم ، وكانوا ينشدون بالله والرحم ، فأقسم بها استدلالاً على لزوم مشهده. ومنها قول الحصين بن حماد يرثي نعيم بن الحارث خليله :قتلنا خمسة ورموا نعيما وكان القتل للفتيان زينا
لعمر الباكيات على نعيم لقد جلت رزيته علينا
فلم يقسم بالباكيات إلا لأن حالهن يشهد على جلالة هذه الرزية ، وهذا النوع من القسم ، وإن لم يكثر في كلامهم لدقة مذهبه ، ولغلبة أقسام أخرى ولكنه طريق واضح ، وأسلوب خاص ، يجمع ابواباً من البلاغة ، كما سيأتيك بيانها في الفصل السابع عشر؟ ويوجد في العرب والعجم وندلك على عمومه بإيراد بعض الأمثلة من كلام اليونانيين.
(12)
القسم على وجه الاستدلال
في كلام ديماسثنس أعظم بلغاء يونان
كانت اليونان في أول أمرهم على حرية كاملة ، لم يملكهم ملك ، بل يدور أمرهم على الجمهورية ، حتى نشأ فيهم فيلبوس أبو إسكندر الأعظم. فتملك عليهم. ولكن لم يستقر حكمه إلا بعد مشاجرات بالجمهور. وكان يحرضهم عليها أعظم خطبائهم ديماسثنس الشهير. فلما هزمهم فيلبوس قام هذا الخطيب على أهل أثينة وهي عاصمة بلادهم ، وألقى عليهم خطبته الطنانة يسليهم على هزيمتهم ويمدحهم على إلقاء نفوسهم إلى الهلاك لإبقاء حريتهم ، وكان خطيب آخر يسمى أسكنس يمنعهم عن مخالفة الملك ، فقال ديماسثنس راداً على أسكنس ومادحاً أهل أثينة.(أيها الأثينيون إنكم لم تكونوا على الباطل حين خاطرتم بنفوسكم في القتال عن حرية يونان وسلامتها ، وفي ذلك لكم أسوة في أسلافكم ، فإنهم لم يكونوا على الباطل : الذين قاتلوا على مراثن ، الذين قاتلوا على سلامس ، الذين قاتلوا على فلاطي. إنكم لم تكونوا على الباطل. كلا ، لم تكونوا. أقسم بالذين خاطروا بنفوسهم على معركة مراثن ، الذين من أسلافكم ألقوا بنفوسهم إلى الهلاك على ميدان مراثن ، الذين كانوا في الحرب البحرية عند سلامس وأرطميسيم ، والذين كافحوا الأعداء على فلاطى. فيا أسكنس إن أهل البلد لم يكرموا الفائزين منهم فقط ، بل أكرموهم أجمعين بإكرام جنازتهم إكراماً جمهورياً).يعني لم يكرموهم على فوزهم بل على محاماتهم واستمتاتتهم للحرية ، فكذلك أنتم وإن لم تفوزوا فقد بذلتم نفوسكم للدفاع عن الحرية.فانظر في هذا القسم ، كيف مثل أسلافهم وفعالهم بين أيديهم ليملأ قلوبهم بالفخار المسلم عندهم ، فضرب لهم مثلاً ، وجعل حسن مساعيهم شاهداً على حسن مسعاة المخاطبين . وأخرج الكلام مخرج القسم الذي بني على التأكيد.واشتهر هذا القسم لبلاغته ، واستجاده السلف والخلف من الناقدين . ولكن أرى المتأخرين منهم أخطأوا كما أخطأ علماؤنا. فإن لا نجنوس اليوناني الذي نشأ بعد ستمائة من ديماسثنس ، وكان معلماً للبلاغة في أثينة ، ومشهوراً بغزارة العلم في زمانه ، ذكر هذا القسم في كتابه على البلاغة ، وقال فيه : إن حسنه في غاية تعظيم المقسم بهم ، فإن ديماسثنس جعلهم بمنزلة الآلهة. وأنكر على من قال إن هذا الأسلوب مأخوذ من قول الشاعر يوبولس الذي أقسم بإكليله.وإني أذكر قسم يوبولس أيضاً ليكون مثالاً ثانياً ، ولتعلم أن الرأي الذي أنكره لا نجوس هو الرأي القويم.
(13)
القسم على وجه الاستدلال
في كلام يوبولس الشاعر اليوناني
كان من سنن يونان في زمان حريتهم أنه إذا فعل أحد منهم أمراً عظيماً نافعاً لهم عصبوا برأسه إكليلاً تشريفاً لقدره واعترافاً بحقه. وكان الشاعر يوبولس نال منهم هذا الإكرام في حرب مراثن لما أبلى بلاء حسناً.ثم بعد ذلك اتهمه بعض حساده بأنه ساخط بالقوم ، ليزرع بهذه التهمة بغضه في قلوبهم. فأزاح يوبولس هذا الظن عن نفسه بقول ترجمته :لا وإكليلي الذي نلت لدى مراثنا
لا يراني شامت أضمر سخطاً كامنا
فأقسم بإكليله الذي ناله من أيدي قومه استدلالاً على عدم سخطه بهم كأنه قال : كيف أسخط على قومي بعد أن أكرموني بهذا العز.فنرى في هذا المثال – كما رأينا في أمثلة أخر – أن القسم لا يختص بالإله. وبذلك ينهدم ما بنى عليه لا نجنوس رأيه ، وتبين لنا أن من جعل قسم ديماسثنس مشابهاً بقسم الشاعر يوبولس أصاب المراد. فإنهما استعملاه على وجه الاستدلال وضرب المثل ، وليس المراد منه تعظيم المقسم به. فإن كان المقسم به في نفس الأمر عظيماً فهذا من محض الاتفاق ، ولا يتعلق به غرض القسم. محض القسم ساكت عن عظمته. ألا ترى عروة بن مرة الذي مر شعره في الفصل الحادي عشر كيف أقسم بالمرخة وضربها مثلاً لغاية الذلة والضعف.(14)
شرح دلالات القسم الاستدلاليبعدما وقفت على أمثلة القسم الاستدلالي من النثر ، والنظم لدى العرب والعجم ، وتبين لك أنه أسلوب خاص من البلاغة ، نريد أن نجمع لك في هذا الفصل ما فيه من الدلالات الاستدلالية التي ذكرناها في الفصول السابقة شتاتاً لتفهمها كل الفهم ، فإن ذلك من مهمات مباحث هذا الكتاب. ثم تجد زيادة عليه حين نذكر ما في القسم من أبواب البلاغة. فاعلم أنهم إذا أشهدوا على وجه الاستدلال ربما أرادوا به شدة وضوح المقسم عليه كما ترى في قول الراعي :إن السماء وإن الريح شاهدة والأرض تشهد والأيام والبلد
يعني أن الأمر بلغ غاية الشهرة والمعرفة حتى إن كل شيء يشهد به ، فذهب في آفاق السماء وأقطار الأرض ، وجرت به الريح في كل جانب ، وبلغ كل بلد ، وكفلت الأيام بإبقائه على صفحات الدهر. وغاية التأكيد في أن هذه الأشياء التي لا روح لها تشهد به فكيف بأهل السمع والبصر والنطق.وهذا بحسب الظاهر مبالغة. ولكنه بني على الصدق ، فإن المراد به غاية الشهرة وعموم العلم به. ويشبه ذلك ما مر من قسم موسى عليه السلام حيث أشهد السماء والأرض.وربما أرادوا به ضرب مثل على وجه التشبيه ادعاء من المتكلم كما ترى في قسم عروة بن مرة. فإنه ضرب المرخة مثلاً لقبيلة بكر التي استغاث بهم أبو أمامة ، فشبههم بالمرخة. وهذا محض الادعاء ، ولكن الدعوى إذا كانت بطريق الإشارة يتلقاها المخاطب بالقبول ، مثلما تراه في التشبيه والكناية ، كما بينوه في كتب المعاني ، ونرجع إلى هذا البحث في الفصل السابع عشر إن شاء الله تعالى. وربما أرادوا به تأييداً للقول ، فأشهدوا بالمقسم به لكونه مؤكداً للمقسم عليه ، كما ترى في قول يوبولس. فإنه أشهد بإكليله الذي أكرمه به قومه. وهو أقصى الغاية عندهم في التعظيم. فكأنه قال في رد قول مخالفه ، إني بعد هذا الشرف الدائم كيف يظن بي أني أسخط بهم. وكان في هذا الاستدلال ضعف فإنه يمكن لمخالفه أن يقول : أنت مع هذا الإكرام العظيم تبدلت ، وصرت جاحد النعمة. فأكد قسمه بالإكليل بذكر شرف نفسه ، فقال: إني اقتنيته في أشهر حروبهم التي بدت فيها منازل سراة القوم ، فكنت فيها من الطراز الأول. فبعد هذا التأكيد لم يترك لخصمه إلا محل حسود يسيئ الظن بالكرام. ولكن في هذا الاستدلال لا يتم التقريب بين الدعوى ودليلها.وربما أرادوا به حجة قاطعة على قولهم بذكر أمر جامع بين المقسم به والمقسم عليه ، كما ترى في قسم ديماسثنس. فإنه ذكر حسن فعال أسلاف المخاطبين ، وهم لا يشكون فيه ، واحتج به على حسن فعال الذين اتبعوا أسلافهم. ولذلك صرح أولاً بأن لكم أسوة في أسلافكم وهذا لعمرك أحسن وجوه هذا النمط من القسم. بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا