[1] سيد قطب، في ظلال القرآن، (3/18).
[2] الآية مدنية، لكن المسلمون كانوا بحاجة إلى هذا التثبيت والتصبير
والتذكير
بوعد الله لهم بالنصر في كل حين، لا سيما أنهم كانوا في معارك
مستمرة
مع أعداء الله من أهل الكتاب والمشركين.
[3] التحرير والتنوير، (9/187).
[4] المصدر السابق، (9/355).
[5] المصدر السابق ، (12/455).
[6] في ظلال القرآن، (3/340).
[7] التحرير والتنوير، (13/379).
[8] في ظلال القرآن، عند تفسيره لقوله تعالى:
(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) [يس:75]، (6/174).
..... يتبع ـ بإذن الله ـ الحديث عن النصر في القرآن المدني
النصر في القرآن المدني
نزل القرآن المدني بعد أن أصبح المسلمون أصحاب دولة وقوة وسلاح، ولم تعد
وسيلتهم للدفاع عن دينهم ونشره الكلمة فحسب، بل إن المواجهة العسكرية هي
الأنسب في هذه المرحلة للمحافظة على وجودهم الجديد.
فصار لكلمة النصر حين تتلى على مسامعهم وقعٌ آخر؛ لأنها تحمل دلالات تمسّ حياتهم
ووجودهم بشكل مباشر، ولا يعني هذا أن القرآن المدني خلا من التذكير بنصر
المؤمنين في الأمم السابقة، فقد قال تعالى ـ مشيراً إلى ما واجه الجماعات
المؤمنة قبلهم من ضر وشدة ـ : (أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء
وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ
مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214]،
وهذه آية مدنية، إلا أن الغالب في استعمال كلمة (النصر) في القرآن المدني
جاء في سياق الحديث عن مواجهات عسكرية حصلت بين المسلمين والمشركين، ولها استعمالات أخرى،
في سياقات مختلفة، ولكنها قليلة إذا ما قورنت مع الاستعمال الغالب لها.
كان أول عهد المسلمين في المدينة المنورة مع سورة البقرة، التي خُتمت بطلب النصر من الله تعالى:
(أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:286]، قال الأستاذ سيد قطب:
"وأخيراً يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله، وهم يهمّون بالجهاد في سبيله، لإحقاق الحق الذي أراده ،
وتمكين دينه في الأرض ومنهجه"[1]
وبعد أقل من عامين كانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين والمشركين، في معركة بدر
الكبرى، التي قدّرها الله عز وجل حتى تظهر الدعوة الإسلامية، وتظفر العصبة
المسلمة بقيادة البشرية.
وقد نقلت سورة الأنفال أحداث هذه المواجهة، التي انتصر فيها المسلمون، وأول ما
يلاقينا في هذه السورة، هو الحديث عن الأنفال، ولا يكون الحصول على الأنفال
إلا بدحر الأعداء، وهذا جانب من جوانب النصر الذي حققه المسلمون.
وجاء أول ذكر لمفردة (النصر) في قوله تعالى
وَمَا
جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا
النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
[الأنفال:10]، وفي هذا تذكير
لهم بحقيقةٍ اعتقادية غرستها في قلوبهم الآيات المكية من قبل، وهي أن النصر
إما أن يكون من الله، وإما أن لا يكون، وقدّم بين يدي هذه الحقيقة
الاعتقادية الدليل عليها، وهي في قوله تعالى قبل هذه الآية:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ)
[الأنفال:9]، وهذا المدد لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
إن استجابة الله تعالى لاستغاثة المسلمين2] آنذاك، وإمدادهم بالملائكة يعدّ نصراً بحد ذاته، ولذلك
أتبع إخباره إياهم باستجابة دعائهم بأن النصر من عند الله، ناهيك عن العون
الإلهي بأشكاله وصوره الأخرى التي ذكرتها الآيات، فقد غشّاهم النعاس أمنةً
من الله تعالى، وأنزل عليهم الماء طمأنةً لقلوبهم وتطهيراً لها، وتثبيتاً
لأقدامهم، وإخماداً لوساوس الشيطان.
وألقى الرعب في قلوب المشركين، وأمر الملائكة بضرب أعناق الكافرين، ففعلوا ..
كل هذا يصوّر معية الله وعونه للمسلمين في غزوة بدر.
والحصول على تأييد الله ومدده ومعونته أعظم نصر للمسلمين.
ولم يقف سياق سورة الأنفال
عند جوانب النصر التي حازها المسلمون في الدنيا، بل انتقل إلى جانب آخر
يتعلق بالآخرة، وهو في قوله تعالى: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) [الأنفال:14].
وعلى هذا، فإن نصر
المسلمين على المشركين في غزوة بدر، كان نصراً عظيماً مؤزراً، امتدت فيه
ملامح النصر من الحياة الدنيا إلى ما وراءها، مما سيلاقيه المشركون في
الحياة الآخرة.
وتعود كلمة (النصر) للظهور من جديد في قوله تعالى: (وَاذْكُرُواْ
إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال:26]، وفي قوله:
(وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)[الأنفال:62]،
يلوح هنا خيطٌ يمسّ الاعتقاد ويحميه من الركون إلا الأسباب المادية،
وهو أن النصر من الله، لا يعتمد على قوة المسلمين وعدّتهم.
ولا بد من التذكير بهذا بين الحين والآخر، حتى لا يفقد المسلمون السبب
الذي من أجله منحهم الله نصره وتأييده
وهو ما ظهر جليّاً في سورة آل عمران، في قوله تعالى
قَدْ
كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) [آل عمران:13]، في سياق الحديث عن غزوة بدر التي
انتصر فيها المسلمون وعلَوا علواً مادياً ومعنوياً، على الرغم من قلة
عَدَدِهم وعُدَدِهم، إلا أن الله تعالى أيّد بنصره الفئة المؤمنة، وهذه
نعمة عظيمة من الله تعالى، ذكّرهم بها أيضاً في قوله:
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران:123]،
وفي قوله: (وَمَا
جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ
وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)[آل عمران:126]، فقد أُسند
النصر إلى الله؛ لأنه هو الذي أمدّ المسلمين يوم بدر بالملائكة، وأنزل
عليهم السكينة، وهيأ لهم كل الأسباب الموجبة للنصر، فكان نصراً تغلّب فيه
المسلمون على المشركين وقتلوا سادتهم، وأئمة الشرك.
قال أبو السعود في تفسير قوله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) [آل عمران:126]: "(إِلاَّ
مِنْ عِندِ الله)، أي: إلا كائنٌ من عنده تعالى من غير أن يكون فيه
شِرْكةٌ من جهة الأسبابِ والعَدد، وإنما هي مظاهرُ له بطريق جَرَيانِ سنتِه
تعالى"[3]
وحين يركن المسلمون إلى كثرتهم وقوتهم، فلن يغنيهم هذا عن الله شيئاً
لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ
عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)[التوبة:25].
وحين يركن المسلمون إلى الدنيا، فلا يخرجون للقتال ولا ينصرون دين الله، فلن يحوزوا النصر، قال تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]،
فالمؤمن إن نصر الله بالتضحية والبذل والعطاء وباع نفسه لله، نصره الله تعالى، قال الإمام الرازي:
"المؤمن ينصر الله بخروجه إلى القتال وإقدامه ، والله ينصره بتقويته وتثبيت أقدامه،
وإرسال الملائكة الحافظين له من خلفه وقدامه"[4].
يتبيّن مما سبق أن النصر
بعد تشكّل الدولة المسلمة أصبح مقترناً بلقاء الأعداء وقتالهم، وهو النصر
بالمعنى المعهود المتبادر إلى الذهن، الدالّ على دحر الأعداء، وتقتيلهم
والحصول على عتادهم وأسلحتهم وأموالهم، وأسر رجالهم، وكل هذا يتم بمدد الله
وتوفيقه.
ويؤيد هذا قوله تعالى
قَدْ
كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) [آل عمران:13]، فالالتقاء هو البروز للقتال[5]،
وقد قُرن النصر بالقتال في سورة التوبة في مواضع عدة، منها قوله تعالى:
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)
[التوبة:14]، وقوله: (لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ
عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)[التوبة:25].
قال الإمام الرازي: " (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)، المعنى: أنه لما حصل الخزي لهم، بسبب كونهم مقهورين
فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين"[6]، والإمام الرازي بهذا التفسير قد أوجز
معنى النصر بأنه إلحاق الخزي بالعدو، وقهره، وهذا لا يكون إلا بعد البروز للقتال والمواجهة.
ومن لوازم النصر في كثير
من الأحيان، أسر الأعداء، الذي يعدّ تعبيراً واضحاً عن قهرهم وإذلالهم،
وهذا ما عرضته الآيات في ختام سورة الأنفال، وذلك في قوله تعالى: (مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ)
[الأنفال:67]، فالتمكّن من العدو وأسره ـ بصرف النظر عن صحة هذا العمل في ذلك الوقت أو خطئه ـ
هو النصر بالمعنى المعروف المتبادر.
وبعد هذه الجولة مع (النصر) في السور المدنية، يظهر بوضوح الاختلاف في استعمال
القرآن المكي لـ(النصر)، واستعمال القرآن المدني له، فبعد أن كان في
الآيات المكية مقترناً بالحديث عن الأمم الغابرة، أصبح في الآيات المدنية
مقترناً بمعارك ميدانية يخوضها المسلمون بأنفسهم، ويقدّمون فيها أرواحهم،
فلم تعدْ المعارك معارك جدل ومناظرة، كما كان الأمر قبل الهجرة، بل أصبحت
معارك حربية عسكرية.
وفي كلا المرحلتين، كانت كلمة (النصر) حين تقع على أسماع المسلمين، تجد صداها
في قلوبهم، وكان إدراكهم لمفهوم النصر على اختلاف أساليب عرضه، سادّاً
للحاجة التي يفتقرون إليها.
ــــــــــــــ
[1] المصدر السابق، (1/329).
[2] الاستغاثة: هي طلب العون والنصرة.
[3] تفسير أبي السعود، (1/450).
[3] تفسير الرازي، (14/86).
[4] "الالتقاء: اللقاء، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، واللقاء:
مصادفة الشخص شخصاً في مكان واحد، ويطلق اللقاء على البروز للقتال". التحرير والتنوير، (3/47).
[5] تفسير الرازي، (7/471)
التوقيع : بلمهدي محمود
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا