شبابي ضاع في المقابر
والكتب الصفراء والمحابر
من بلد لبلد مهاجر
آه من صمت القواميس المريب
ومقامات الحريري
على هامش مخطوط قديم
ذكرتني بكلاب الزمهرير تنبح الموتى
بصحراء الجليد
وفي قصيدة أخرى أكثر غموضاً يقول:
أدخل في عينيك
تخرجين من فمي
على جبينك الناصع أستيقظ
في دمي تنامين على سرر أمطار
صحارى التتر الحمراء مجنوناً أناديك
بكل صرخات العالم الوحشية واللغات
كل وجع العاشق في قاع جحيم المدن
العاشق والولي والشهيد
في دمي تنامين.
هل فهم أحد ماذا يريد البياتي أن يقول، اللهم إلا كلاماً تأباه اللغة العربية الفصيحة والشريفة، ومن هذه المدرسة نظم الشاعر اللبناني عادل فاخوري الكلام التالي، وأخذته الإذاعة اللبنانية، ولحنته، ودعته بالقصيدة الإلكترونية، قال الفاخوري تلميذ أدونيس:
هسهسات السنابل
صليل
في الهوا
ينتهي رحيل
سين . سين . سين .
سرساب أسود
عصفور يطير
يتبعثر في الريح
يولد
عند تجمع الأثير
ويهوى الصعود
كلما
هم
به
من النشوة
همى
النشوة ريش
سين . سين . سين
سرساب أسود
أبجد . هوز . حطي . كلمن
سعفص . قرشت
سين . سين
أبجد هوز . حطي
الحرف يسري حيث الموت
حاء
فحيح
عصفور
عين . صاد
عصفور
عين . صاد
النشوة ريش
اشخط
النشوة ريش
اشخط
خط . نقطة . خط
خط . نقطة . خط
خط.
ترى ماذا يريد هذا الرجل أن يقول ، بل ماذا يريد بتلك الحروف المقطعة ، عين . سين . عين صاد … تراها معارضة لحا ميم عين سين قاف، أو ألف لام ميم ، أم لشيء آخر؟
وإذا كنا قد نسبنا هذه الأشعار إلى أدونيس وصحبه ، فمن هو هذا الرجل ، وماذا يريد ؟
أدونيس رجل سوري الأصل ، من جبال العلويين ، اسمه الحقيقي : أحمد سعيد علي، واتخذ لنفسه لقب إله الخصب عند القدماء وهو " أدونيس " . تقلب بين الشيوعية، والقومية السورية، والناصرية، ثم تنصر، وهجر الوطن العربي كله، واستوطن فرنسا، ولا يزال فيها.
أدونيس صاحب رسالة في هدم التراث ، وهو الفيلسوف ، والمنظر لهذا الاتجاه . ففي كتابه " الثابت والمتحول " وبخاصة في الجزء المسمى بـ " صد مة الحداثة " حرب معلنة شعواء وصريحة على كل قيم التراث ، والدين ، والأدب ، والشعر ، ورفض لكل أدب فيه أثارة من دين وإسلام .
وهو يرى أن المشكلة المصيرية والحضارية تتمثل بمشكلة الدين ويعني به الدين الإسلامي ليس غير . قال أدونيس عن الإسراء والمعراج من قصيدة طويلة ساخرة من كل القيم الدينية على لسان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
رأيت باباً كتبت عليه
كتابة قرأتها
فانفتح الباب ، رأيت خلفه
جهنماً
رأيت غابات من النسوان
يغلين في القطران
يُطرحن للأفاعي
هذا جزاء نسوة
يظهرن للغريب .. هذي امرأة
صورتها صورة الخنزير ..جسمها حمار
لأنها لم تغتسل من حيضها
هذا عقاب امرأة تعشق غير زوجها
هذا جزاء امرأة
لا تحسن العشرة .. أو لا تحسن الوضوء
لا تصلي
أفليست هذه الشواهد دليلاً على تلمذة هؤلاء لأولئك الشعوبيين، ودعوة إلى إحباط كل شيء عربي، أو إسلامي، أو آسيوي ؟
يقول أنور الجندي: " وقد قام لويس عوض - بروح متعصبة - دون أي شاعر عمودي يبتغي طريقــه إلى وسائل الإعلام والنشر من إذاعة أو صحافة أو أي وسيلة أخرى إلى الجماهير، كما يقول الدكتور طاهر أحمد مكي في كتابه "الشعر العربي المعاصر - دوافعه ومداخل لقراءته " : ( وأفسح المجال واسعاً عريضاً لكل من يكتب الشعر الحر، وإذا نشر قصـيدة عمودية لشاعر عمودي مثل كامل الشناوي "مثلاً" نشرها موزعة الجمل على نحو يوحي بأنها من الشعر الحر، وفي ظل هذه الحركة تحول شبان كثيرون لا يزالون شاردين في عالم الشعر - وكان يمكن أن يصبحوا شعراء عموديين ممتازين - إلى شعراء يكتبون كلاماً تافهاً في الشكل الجديد ، وأصبحوا كما يقول الشاعر أدونيس وهو ليس متهماً في شهادته هذه؛ لأنه من دعاة الشعر الحر المتحمسين له "في الشعر الجديد اختلاط وفوضى وغرور تافه وشبـه أمية، ومن الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغـة والسيطرة عليها، ومن لا يعرف من فن الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما، إن الشعر الجديد مليء بالحواة والمهرجين، كان هناك بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وهما من أخلص دعاة الماركسية نشر السياب قصائده ( جل في علاه ) وكلها صيحات إنكار بل ثورة على الله، هذا أمر، أما الأمر الآخر الذي يهدف إليه هذا التيار فقد كان واضحاً في تلك الرغبة المحمومة في إظهار الأحتقار للتراث الإسلامي العربي والزراية على الشعراء العرب القدامى المجددين، ونعتهم بالصنعة والتكسب، وإعلاء التراث اليوناني والروماني على ما فيه من وثنية ويسخر أدونيس من حادثة الإسراء في قصيدة ( السماء الثامنة ).
المبحث الثالث: وظيفة الشعر أسباب التجديد فيه
إن الغموض في الشعر العربي يناقض الوظيفة تمام، فإذا كان الشعر مبهما فكيف تكون له وظيفة، فلا هو يصف حالة الشاعر النفسية، ولا هو يخدم مجتمعه، فإذا كان هذا يفهم القصيدة بمعنى وذاك يفهما بمعنى آخر فأي فائدة ترجى منه إذن؟ وإذا فقد وظيفته الفردية والجماعية مات، فالغموض على هذا موت للشعر، وقد ظهرت مذاهب نقدية عديدة تحاول إقامة مناهج لتحليل نصوص الإبداع وشرحها ولكن بنظرية القراءات، وتدعي هذه النظرية أن من حق المحلل أن يؤول النص من منظوره فيعطي شروح لما جاءت به، ولكن ليس خبط عشواء بل بمنهج موضعي. يقول الدكتور عبد المالك مرتاض: "ومن الواضح أن من حق القارئ- المحلِّل- أن يؤوّل النصّ المقروء على مقصديّة الناصّ، ولكن دون أن يدّعيّ أن تأويله يندرج ضمن حكم الصّحة؛ إذ لا يستطيع أن يبلغ تلك المرتبة من العلم إلا إذا لابس الناصّ، وألَمَّ إلماماً حقيقياً بأحداث التاريخ التي تلابس النص والناصّ معاً، وعايش لحظة إبداع النص، وتواجَدَ في مكانه، وساءل الناصّ شخصيّاً عمّا كان يقصد إليه من وراء نسج نصّه المطروح للقراءة... ولِمَ قال ذلك؟ ولِمَ وَصَفَ هذا؟ ولِمَ، لَمْ يَصِفْ هذا؟ ولم كثّف هنا، ولم يُسَطّحْ؟ ولِمَ أومأ ولمْ يصرّح؟ أو، لِمَ صرّح ولم يُلَمّح؟ وهذا أمر مستحيل التحقيق.. إنّ تأويل النص قراءة للتاريخ، لا بحثاً عن الحقيقة، ولا التماساً للواقع، كما تدّعي المدرسة الواقعيّة التي تزعم للناس باطلاً، أنّ الأدب يصف المجتمع كما هو؛ وأنها هي تستطيع أن تفسّره كما قَصَدَ إليه صاحُبه...، ولا طلباً للمَعيشِ بالفعل... ولكنه إنشاء لعالم جديد يُنْسَجُ انطلاقاً من عالم النصّ من حيث هو نصّ؛ لا من حيث مَقْصِدِيّةُ الناصّ من حَيْثُ هو ناصٌّ ولا سواءٌ تأويلٌ يكون منطلقُه من مَقْصِديَّة النصّ فيقرؤُه بحكم ما يرى مما توحي به القراءة؛ وتأويلٌ يكون منطلقه من مقصديّة الناصّ فيقرؤه على أساس أنّه يتناول حقيقة من الحقائق ." انتهى قوله. أما كلامه هذا فهراء وغثاء، إذ كيف تنبني المعرفة الإنسانية من اللاحقيقة، بل الحقيقة بنت البحث فكيف يلد البحث الموضوعي حسب زعمهم غير الحقيقة؟
إن الوصول إلى مقصدية الناص لا تحتاج إلى سؤاله، ماذا تقصد بهذا؟، لماذا وصفت هذا؟ ولم تصف هذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟، لأنه وبكل بساطة، كلامه هو الذي يخبرنا، حيث إن الهدف الرئيس من اللغة هو التواصل، ونقصد بالتواصل الفهم والإفهام، فإذا فقدا زال ذلك التواصل، واستنطاقنا لنص غامض، بكلام غامض، مثل شطحات ذي جنة مخبول. والسيميائية والأسلوبية وتحليل الخطاب ولسانيات النص وغيرها التي تزعم الموضوعية في تحليلاتها، واليقين في نتائجها تقع في التناقض من حيث لا تعلم، حيث أن التأويل يناقض الموضوعية، أي كيف تأول النص بذاتيتك، ثم تقول: هذا هو الحق، والآخر يفعل مثل فعلك فيتعدد الحق، وإنما الحق واحد، وهي تيارات بنوية، استجلبت من العلوم التجريبة كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، ثم أدخلت عنوة على الأدب فصار جامدا غثا صلبا، يخاطب العقول لا القلوب فأماتوه بذلك، هذه المناهج تدعو إلى جعل النص بنية مغلقة على نفسها، فلا يجوز للمحلل أن يعمد إلى ظروفها الخارجية ليأول تراكيبها، بل أكثر من ذلك حين اتجهوا إلى الشعر القديم، يطبقون عليه هذه الترهات، ويقولون للنص: اسكت، نحن نؤولك كما نريد، فيحملوه ما لا يحتمل، ويثقلون كاهله بالمعاني التي لم ترد في خاطر الشاعر قط ولم تنبس شفتاه ببنتها. وإنما تصلح هذه الأراجيف في أراجيف الشعر الغامض المدلهم، والطيور على أشكالها تقع.
وأسباب التجديد في هذا العصر تكمن في شيئين اثنين رئيسين: الاتصال بالآداب الأجنبية، الثورة على الشعر القديم، وإذا أمررنا النظر في أسباب التجديد مذ كان الشعر العربي، لوجداه يتغير لسببين، أولهما: اقتباسه من الثقافات الأجنبية، وثانيهما اللهو والغناء والمجون، وكلا السببين لا خير فيهما.
والحديث ذو شجون، ولكن تكفينا الإشارة لهذا التجديد المزعوم وأن وراءه أمر جلل على الأمة الإسلامية، دخلها المبشرون لها من باب الشعر تحت اسم الحداثة، وشر الأمور محدثاتها، ومآلها أن يبتلعها حوت النسيان الغائص في بحار الأزمان.
: د.جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء 17، دار الساقي، الطبعة الرابعة، 2001م، ص 175 .
: العضرفوط: ذكر العظاء.
- شوقي ضيف العصر العباسي الثاني ص 203
- التجديد العروضي الغنائي في شعر الموشحات الأندلسية ـــ محمود فاخوري(*)
- أحمد بن المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 2، إحسان عباس، دار صادر، - بيروت – لبنان، ط 1، ص 251.
- اتجاهات الشعر العربي المعاصر
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا