العمل بالعلم من أخلاق العلماء
طالما كان هناك إخلاص، وطالما كان هناك علم نافع ينبني عليه عمل، إذن لابد أن يكون هناك استثمارٌ لهذا العلم، وهو العمل به!
استثمار العلم العمل به
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر، فأقول: لبيك يا رب، فيقول: "ما عملت فيما علمت؟!
وذكر الخطيب البغدادي بسنده قال: كان إسماعيل بن إبراهيم بن جارية يقول: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به.
ولفهم تلك القضية، فماذا يعني كونك -مثلاً- عندك من الأدلة على فضل صلاة الفجر، أو الصلاة في جماعة، والأهمية الكبيرة والثواب العظيم عليهما، والوعيد الشديد لمن يتخلف عنهما، ثم تتخلف أنت ؟!
إن مثل ذلك العلم يكون حجة على الإنسان، لا حجة له !! وقس على ذلك كل العلوم، سواء في علوم الشريعة أو في علوم الحياة.
أصناف الناس بين العلم والمال
ومن هذه الوجهة، فقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى أربعة أصناف، وذلك بحسب العلم والمال الذي عندهم، فهناك من أنعم الله عليهم بالعلم والمال، وهناك من حرمهم الله العلم والمال، وهناك من أعطاهم العلم ومنعهم المال، وهناك من رزقهم المال ومنعهم العلم.
الصنف الأول
فقد روى أبو كبش الأنماري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ.
ذلك أن العلم عنده ضبط حركة المال، فجعله يتحكم فيه تحكمًا شرعيًّا، فتراه يأتي به من جهة حلال، وتراه ينفقه في الوجه الذي أحله الله، وفوق ذلك فهو لا ينسى حق ذلك العلم عليه، من جهة نشره وتعليمه وتدريسه.
الصنف الثاني
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ.
وما أعظم تلك المثوبة وذلك الجزاء العظيم، الذي هو متوقف فقط على الإخلاص والنية الصالحة!! وما أعظم الحسنات التي من الممكن أن يكتسبها الذي حرم المال وهو يبغي الإنفاق !!
الصنف الثالث
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ.
فحرمان العلم مع وجود المال، جعله لا يعرف وجوه الحلال والحرام في الإتيان به، أو صرفه وضبط حركته، فتراه يتصرف فيه من تلقاء نفسه، فيتخبط فيه معربدًا ميمنة وميسرة، فيمسك تارة شُحًّا وحرصًا، وينفق أخرى فخرًا وسمعة ورياء.
وهكذا، فإن أكثر الأغنياء يفتنون، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه: "إِنَّ الْأَكْثَرِينَ (في المال) هُمُ الْأَقَلُّونَ (في الحسنات) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .. " . فقليلٌ جدًّا من يُؤتى المال فيثبت، ويتصرف فيه بما ينبغي أن يكون.
الصنف الرابع
وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ.
وإن هذا الصنف من الناس -والله- لمسكين !! فهو ليس لديه كثير مال، ولم يتعلم العلم ولم يطلبه، ورغم ذلك تراه يتمنى أن لو كان عنده مال، لعمل فيه -ليس بالتعلم، أو بإنفاقه في طرق الخير وفي مصارفه الشرعية، وإنما -بعمل ذلك الرجل العاصي، الذي ينفق ماله في معصية الله تعالى، والذي يتكبر بماله ويتطاول به على الناس !!
وقد وقع عليه وزر نيته !!
خطورة عدم العمل بالعلم
وفي عدم العمل بالعلم يروي أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أليس كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ.
ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِرِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ.
وقال الحسن: "إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصِيبُ الْبَابَ مِنَ الْعِلْمِ فَيَعْمَلُ بِهِ، فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ كَانَتْ لَهُ فَجَعَلَهَا فِي الآخِرَةِ. قَالَ: وَقَالَ أيضًا: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَبَ الْعِلْمَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي بَصَرِهِ وَتَخَشُّعِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَصَلاَتِهِ وَزُهْدِهِ".
أمثلة عملية في العمل بالعلم
الإمام أحمد رحمه الله
وفي أمثلة عملية وحية على أحوال علماء الأمة في العمل بالعلم، فإن المروذي يقول: قال الإمام أحمد: ما كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا إلا وعملت به، (في مسند الإمام أحمد حوالي 40.000 حديث) حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام دينارًا، فأعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت!!
بل إنه رحمه الله استأذن زوجته في أن يتخذ أمَةً فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها ريحانة؛ استنانًا بالرسول صلى الله عليه وسلم!!
الحسن البصري رحمه الله
وهذا الحسن البصري رحمه الله، جاءه الرقيق يومًا وطلبوا منه أن يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس وقتئذٍ يَقبلون منه ما لا يقبلون من العلماء. فقام الحسن في الجمعة الأولى فلم يتكلم في هذا، وفي الثانية لم يتكلم أيضًا، وفي الجمعة الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب، وكان أن خرج الناس من المسجد فأعتقوا من كان عندهم من الرقيق.
وحينها جاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن ويقولون: أبطأت علينا ثلاث جمع، فقال: لقد انتظرت حتى رزقني الله مالاً، فاشتريت عبدًا وأعتقته لوجه الله تعالى؛ حتى لا آمر الناس بما لم أفعل !!
سفيان الثوري رحمه الله
وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: "ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قَطّ إلا عملت به، ولو مرةً واحدةً.
أبو هريرة رضي الله عنه
ويقول أبو رافع: "صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ".
في الملاحة البحرية
وفي العلوم الحياتية، فإن الصينيين كانوا قد اخترعوا البوصلة، إلا أنهم كانوا يستخدمونها في السحر والخرافات، وحينما وصلت لأيدي المسلمين، كانوا هم أول من استخدمها في الملاحة البحرية، وفي تحديد القبلة في الصلاة، وبدءوا يطورونها كي تؤدي فوائد عملية للناس.
ابن الهيثم رحمه الله
وقد مرَّ بنا سعي ابن الهيثم لتطبيق فكرته لبناء سدٍّ على النيل يحمي مصر من مياه الفيضان، وهو الذي أنكر نظرية إقليدس وبطليموس في علم البصريات، والتي تقول بأن العين هي التي ترسل أشعتها على الأشياء، وأثبت بتجاربه العملية أن العكس هو الصحيح.
الجزري رحمه الله
أما الجزري رحمه الله (من علماء الهندسة الميكانيكية المعدودين) فقد طلب منه الخليفة أن يصنع آلة تغنيه عن الخدم كلّما رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له الجزري آلة على هيئة غلام منتصب القامة، وفي يده إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يصفر الطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى من وضوئه يقدم له المنشفة ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يغرِّد [12]!!
وهكذا، كان للعلم الذي تعلمه العلماء المسلمون، سواء الشرعي أو الحياتي، تطبيق عملي في حياتهم اليومية، واستثمار حي وحقيقي له.
[1] أبو محمد المنذري: الترغيب والترهيب 1/74.
[2] الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي 2/258.
[3] البخاري: كتاب الاستقراض والديون والحجر والتفليس، باب أداء الديون (2258)، مسلم: كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة (94)، وأحمد (21385)، وابن حبان (170).
[4] الترمذي: كتاب الزهد، باب مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) وقال حديث حسن صحيح، وأحمد (18060)، وقال الألباني: صحيح: (3024) صحيح الجامع.
[5] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة (3094)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله (2989).
[6] أحمد (13445)، وابن حبان (53)، والطبراني في الأوسط (8223)، وقال الألباني: صحيح (291) السلسلة الصحيحة.
[7] الدارمي: باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله (385).
[8] الذهبي: نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء إعداد محمد بن موسى الشريف 2/929.
[9] الذهبي: سير أعلام النبلاء 7/242
[10] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب الجهر في صلاة العشاء (732)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة (578)، وأبو داود (1408).
[11] الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص124.
[12] محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام 5/237.
=
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا