الصدق الفني وحرارة النص الشعري
يولي نقد الشعر اهتماماً كبيراً بقضية الصدق الفني وحرارة النص الشعري، وكثير من النقاد يتناولون هذه القضية وهم يباشرون تحليل نص من النصوص الشعرية وتقويمه. ولا ريب فهو أمر في غاية من الأهمية، ويستحق اهتمام الناقد والشاعر معاً.
وكان النقاد القدماء قد التفتوا إلى هذه القضية وألقوا الضوء عليها وميّزوها، غير أنها من القضايا التي لا يمكن أن توضع في ميزان دقيق، ولا يمكن لأي ناقد أن يتصدى لها، دون أن يكون ذا ذائقة شعرية عالية، وإحساس قوي بمناحي اللغة وأساليبها، وطبائع النفوس وانفعالاتها، ومعرفة تامة بأدوات الشاعر ومواصفات النص الفنية، وخبرة بحركة الشعر وتاريخه، والشعراء ومنازعهم على مدى العصور التي سبقت، فضلاً عن عصر الشاعر.
وبمثل ما نضعُ للناقد اشتراطات وتوصيفات، يتحتم علينا أنْ نحدِّد طبقة الشاعر، فإن لمعايير الصدق الفني وحرارة النص مهيئات لدى الشاعر، فإذا لم تتوفر هذه المهيئات فلا يصلح نقد النص ولا تكتمل أجزاؤه. غير أننا لا نستطيع، في عجالة، أن نلم بهذه وتلك، وإنما نستطيع أن نشير إلى اكتمال الأدوات لدى الشاعر والناقد، ليكون ذلك قواماً عاماً للمهيئات جميعاً.
ومهما وضعنا من مهيئات واشتراطات فإن علينا ألاّ ننكر العامل الذاتي لدى المبدع، وهو الذي يحدد ملامح شخصيته، ولذلك فإن العملية النقدية للنص الشعري ستختلف في إجراءاتها وأساليب تحليلها ونتائجها من ناقد إلى آخر، حتى في النص الشعري الواحد في هذه القضية، لأن الاشتراطات نفسها فضفاضة ومعقدة ومتشعبة، وإذا كان النقاد القدماء ، وحتى المحدثون، قد اتفقوا بشأن نص من النصوص أو شاعر من الشعراء فإن اتفاقهم لم تكن به علقةٌ بالجزئيات دون العموميات، إلا نادراً.
كيف نفهم الصدق الفني وحرارة النص؟
لا شك في أنَّ لذلك علاقة بتجربة الشاعر الذاتية التي يتناولها النص، ولكل تجربة زمان ومكان، بل زمانان ومكانان، ودون الاستشعار بزمكانية النص لا يمكن للناقد أن يحلل النص الشعري من حيث هو تعبير عن تجربة شعرية، فأما الزمان الأول فهو زمان الحدث الحقيقي، ومكانه هو مكان الحدث الحقيقي، وأما الزمان والزمان الثانيان فهما زمان كتابة النص ومكانها، كما أرى.
وسيسهل علينا مراقبة أبعاد زمكانية الحدث- التجربة، وزمكانية الكتابة من خلال معرفتنا بماجريات التجربة بأجمعها، فكلما اقتربت الأولى من الثانية تلمسنا الصدق الفني وحرارة النص بقدر ذلك الاقتراب، وكلما ابتعد زمن كتابة النص ومكانها عن زمن الحدث ومكانه ابتعد النص عن هذين بالقدر نفسه.
والأمر متعلق بلحظة الإبداع القائمة على الأثر، ثم استحضار الأثر في وقت لاحق، ولا يمكن لنا أن نسلِّمَ بأن الشاعر، أي شاعر، قادر على استحضار الأثر بالقدر نفسه الذي عليه الأثر في لحظة حدوثه، ولذلك فإنه سينتقل من حالة الانفعال إلى حالة الافتعال على نحوٍ ما من الأنحاء.
ولا شكَّ في أن بعض الأحداث التي تشكل التجربة الحية للشاعر قد يبقى طويل الأثر، غير أن الزمن كفيل بتبديد قدرٍ من الانفعال ينقصُ أو يزيد، بحسب إحساس الشاعر وقدرته على اختزان الحدث واستحضار الماضي واستنهاضه، وقوة تأثره، وبحسب طول الزمن نفسه، ولذلك فإن أكثر النصوص حرارةً وأشدها تعبيراً عن تجربة الشاعر هي ما يُكتب في لحظة الأثر، وأقول لحظة ولا أقول ساعة، وأقصد الومضة، لأنني أعتقد بأن الأثر الموحي للنص لا يتجاوز الومضة، وما بعد الومضة موكول بالظروف المحيطة بالشاعر ومدى استجابته لها، وكلما امتنع عن الاستجابة لها كان ذلك أوفى بتعبيره عن تجربته الشعرية بالحرارة المطلوبة لإنضاج النص!.
إن عدم استجابة الشاعر للظروف المحيطة وقت كتابة النص هي حالة لاوعيٍ وانعزال تامَّينِ عن الواقع، وهي حالة من حالات الغياب التي يُوصف بها المجانين، ولكنها لحظات جنون مؤقتة يُصاب بها المبدعون الحقيقيون في العادة، وهو جنون إيجابي خلاّق طالما وُصف به الأنبياء والمرسلون، ثم الشعراء ووراءهم وادي عبقر!.
وإذا كنتُ نأيتُ بنفسي عن الدخول في الحديث عن مهيئات عمل الناقد لشيوع الكلام عليها، فإنَّ عليَّ الإشارة إلى أهمية استخدام الناقد للمنهج النفسي في تناوله للنص، بشكل خاص، وهو يحاول تفحُّص صدق تجربة الشاعر وحرارة نصه، واستبطان معاناته.
الحوليات:
ولا أدري كيف كان يكتب الشعراءُ في عصر ما قبل الإسلام حولياتهم، بحسب ما تناهَى إلينا مِن أخبار، ولماذا كان يستنفدون من أعمارهم حولاً كاملاً للتثقيف والتحكيك والتعديل في قصيدة واحدة وإنْ كانت من المطوَّلات؟، هل صحيح ما نقله إلينا النقاد القدماء والمؤرخون من أخبار بشأن هذه الحوليات؟، لا أظنّ، فأنا شخصياً لا أقبل مثل هذه الأخبار، ليس لأنَّ دليلاً واحداً لا يقف وراءها، بل لأن العقل لا يقبلها ولا المنطق المعقول.
ولا يكفيني أنْ يكون الناقل للأخبار من الأسلاف، حتى إذا كان ابن بحرٍ أو ابن قتيبة أو ابن المبرد أو ابن رشيق أو ابن خلدون، فهم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، ويسمعون فينقلون، وينتبهون ويغفلون، ولا يحطُّ ذلك من أقدارهم، فلو لم يكن لهم غير النقل والتدوين لكفاهم فضلاً وفخراً، فتلك مهمة ليست باليسيرة ولا المستهان بها.
إن حولاً كاملاً يستطيع بجدارة تامة أن يُغير من ماجريات الحدث، وتأثر الشاعر به، ونفسيته وانفعالاتها، فكيف نتلمس صدق التجربة الشعرية؟ وأي حرارة للنص ستبقى كما هي؟. إن علينا إذنْ أن نحكم بعدم صدق التجربة الشعرية في النصوص وبرودها، أو أن نحكم بعدم قبول فكرة الحوليات، وأنْ نعلِّم الأجيال كيفية النظر في الأخبار وتقليبها وتمييز الصحيح منها والفاسد، وأن يكونوا جميعهم قرّاء ناقدين، لتحرِّي الحقيقة التاريخية، قبل أن يصبح البعضُ منهم نقّاداً، لتحليل النص الشعري.
ولعل قصيدة 'الومضة' هي أشد النصوص حرارة، وأصدقها في التعبير عن التجربة الشعرية للشاعر، إذا صحَّ معها الاشتمال على جميع التوصيفات التي تخص الشاعر، فهي عمل فني إبداعي قبل كل شيء، ولا ينبغي لها أن تُلقَى إلينا جُزافاً. وأما تجربة الشاعر فليس بالضرورة أن تكون فعلاً قام به أو واجَهَـهُ دون أن تكون فكرةً أو شعوراً أو تصوراً أو انفعالاً إزاء حدث من الأحداث أو مشهداً من مشاهد الحياة أو خبراً من الأخبار، أو شيئاً قد لا يُعرَف كُنهه أحياناً.
والصدق الفني، على هذه الحال، يرتبط ارتباطاً مباشراً بحرارة النص الشعري، ويتضافر معه، ويبادله التأثر والتأثير، بل إنَّ حرارة النص استجابة دقيقة لصدق التجربة الشعرية، وكلاهما مما يصعب إيجاد توصف دقيق لهما يتمكن الناقد معه إلى الاهتداء إلى تحليل دقيق للنص الشعري وتلمس مقدار هذين الأمرين فيه، دون أنْ يكون ذلك موكولاً بما قدَّمناه من أدوات الناقد التي ليس لها حدود دقيقة، وتقف الذائقة الشعرية في مقدمتها.
ولعلَّ تراخي حدود مؤهلات الناقد من ناحية، والمتلقِّي من ناحية أخرى، والمعنى الفضفاض للصدق الفني وحرارة النص الشعري، هي التي تجعل نصَّاً من النصوص جميلاً ومؤثراً وصادقاً وحاراً لحظة تلقّيه، دون تلمّس الأسباب، فضلاً عن أنَّ من الأسباب الكامنة في روح الشاعر ما لا يمكن تَقصِّيه حتى من لدن الناقد الحصيف.
إن عمل الناقد يصبح عملاً شاقّاً ومعقداً جداً عندما يتعلق بقضية الصدق الفني وحرارة النص، غير أننا، على أية حال، لا يمكن أن نستهين بما يتوصَّل إليه من نتائج وتحليلات، في قضية من أهم قضايا الشعر قديمه وحديثه.
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا