نابليون في القاهرة .. الحملة الفرنسية على مصر
رغبة فرنسا في احتلال مصر
تعرَّضت مصر لحملتين صليبيَّتين في عهد الدولة الأيوبية، وكانت الحملتان تقودهما فرنسا، أمَّا الأولى فقد عُرفت بالحملة الصليبية الخامسة، وكانت بقيادة "جان دي برس"، وأمَّا الأخرى فقد عُرفت بالحملة الصليبية السابعة، وكانت بقيادة الملك لويس التاسع ومنيت الحملتان بهزيمةٍ مدوية عامي (618هـ=1221م) و(648هـ=1250م) وخرجتا من مصر تجرَّان أذيال الخيبة والعار.
غير أنَّ رغبة فرنسا في احتلال مصر ظلَّت متَّقدة لم يُطفئ جذوتها توالي السنين والقرون، وبقيت أملًا لساستها وقادتها ينتظرون الفرصة السانحة لتحقيقه، ويبثُّون رجالهم في مصر يجوبونها في زي التجَّار أو السيَّاح أو طلَّاب العلم، ويكتبون دقائق حياتها في تقارير يُرسلونها إلى قادتهم هناك.
ولما بدأ الضعف يتسرَّب إلى الدولة العثمانية ويدبُّ في أوصالها أخذت فرنسا تتطلع إلى المشرق العربي من جديد، وراح الأمل القديم يحيا في النفوس، وبدأ الساسة الجدد ينتظرون لحظة الثأر من العار الذي لحقهم في معركة المنصورة خالدة الذكر في سنة (648هـ=1250م)، وكانت تقارير رجالهم تُحرِّضهم بأنَّ اللحظة المناسبة قد حان أوانها ولا بُدَّ من انتهازها.
وكشفت تقارير "سانت بريست" سفير فرنسا في الآستانة منذ سنة (1768م) و"البارون دي توت" والمسيو "مور" قنصل فرنسا في الإسكندرية ضعف الدولة العثمانية، وأنَّها في سبيلها إلى الانحلال، ودعت تلك التقارير إلى ضرورة الإسراع باحتلال مصر، غير أنَّ الحكومة الفرنسيَّة تردَّدت ولم تأخذ بنصائحهم، احتفاظًا بسياستها القائم ظاهرها على الود والصداقة للدولة العثمانية.
الشروع في إعداد الحملة
قبل قيام الحملة الفرنسية على مصر قدم "شارل مجالون" القنصل الفرنسي في مصر تقريره إلى حكومته في (22 من شعبان 1212هـ=9 من فبراير 1798م) يُحرِّضها على ضرورة احتلال مصر، ويبيِّن أهميَّة استيلاء بلاده على منتجات مصر وتجارتها، ويُعدِّد لها المزايا التي ينتظر أن تُجنيها فرنسا من وراء ذلك.
وبعد أيامٍ قليلةٍ من تقديم تقرير مجالون تلقَّت حكومة فرنسا تقريرًا آخر من "تاليران" وزير الخارجيَّة، ويحتلُّ هذا التقرير مكانةً كبيرةً في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر؛ حيث عرض فيه للعلاقات التي قامت من قديم الزمن بين فرنسا ومصر وبسط الآراء التي تُنادي بمزايا الاستيلاء على مصر، وقدَّم الحجج التي تُبيِّن أنَّ الفرصة قد أصبحت سانحةً لإرسال حملةٍ على مصر وفتحها، كما تناول وسائل تنفيذ مشروع الغزو من حيث إعداد الرجال وتجهيز السفن اللازمة لحملهم وخطة الغزو العسكرية، ودعا إلى مراعاة تقاليد أهل مصر وعاداتهم وشعائرهم الدينية، وإلى استمالة المصريين وكسب مودتهم بتبجيل علمائهم وشيوخهم واحترام أهل الرأي منهم؛ لأنَّ هؤلاء العلماء أصحاب مكانةٍ كبيرةٍ عند المصريين.
قرار الحملة
وكان من أثر التقريرين أن نال موضوع غزو مصر اهتمام حكومة الإدارة التي قامت بعد الثورة الفرنسية، وخرج من مرحلة النظر والتفكير إلى حيِّز العمل والتنفيذ، وأصدرت قرارها التاريخي بوضع جيش الشرق تحت قيادة نابليون بونابرت في (26 شوال 1212هـ=12 من إبريل 1798م).
وتضمَّن القرار مقدمة وست مواد، اشتملت المقدمة على الأسباب التي دعت حكومة الإدارة إلى إرسال حملتها على مصر، وفي مقدمتها عقاب المماليك الذين أساءوا معاملة الفرنسيين واعتدوا على أموالهم وأرواحهم، والبحث عن طريق تجاري آخر بعد استيلاء الإنجليز على طريق رأس الرجاء الصالح وتضييقهم على السفن الفرنسية في الإبحار فيه، وشمل القرار تكليف نابليون بطرد الإنجليز من ممتلكاتهم في الشرق، وفي الجهات التي يستطيع الوصول إليها، وبالقضاء على مراكزهم التجارية في البحر الحمر والعمل على شقِّ قناة برزخ السويس.
تجهيز الحملة
جرت الاستعدادات لتجهيز الحملة على خير وجه، وكان قائد الحملة الجنرال نابليون يُشرف على التجهيز بكلِّ عزمٍ ونشاط، ويتخيَّر بنفسه القادة والضباط والعلماء والمهندسين والجغرافيِّين، وعني بتشكيل لجنةٍ من العلماء عُرفت باسم لجنة العلوم والفنون، وجمع كلَّ حروف الطباعة العربية الموجودة في باريس لكي يُزوِّد الحملة بمطبعةٍ خاصَّةٍ بها.
وأبحرت الحملة من ميناء طولون في (3 من ذي الحجة 1212هـ=19 من مايو 1798م) وتألَّفت من نحو 35 ألف جندي، تحملهم 300 سفينة ويحرسها أسطول حربي فرنسي مؤلَّف من 55 سفينة، وفي طريقها إلى الإسكندرية استولت الحملة على جزيرة مالطة من فرسان القديس يوحنا آخر فلول الصليبيين.
الأسطول الإنجليزي يراقب الحملة
وعلى الرغم من السريَّة التامَّة التي أحاطت بتحركات الحملة الفرنسية وبوجهتها، فإنَّ أخبارها تسرَّبت إلى بريطانيا العدو اللدود لفرنسا، وبدأ الأسطول البريطاني يُراقب الملاحة في البحر المتوسط، واستطاع نيلسون قائد الأسطول الوصول إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الحملة الفرنسية بثلاثة أيام، وأرسل بعثة صغيرة للتفاهم مع السيد "محمد كُريِّم" حاكم المدينة وإخباره أنَّهم حضروا للتفتيش عن الفرنسيين الذين خرجوا بحملةٍ كبيرةٍ وقد يُهاجمون الإسكندرية التي لن تتمكَّن من دفعها ومقاومتها، لكنَّ السيد محمد كريم ظنَّ أنَّ الأمر خدعةٌ من جانب الإنجليز لاحتلال المدينة تحت دعوى مساعدة المصريين لصدِّ الفرنسيين، وأغلظ القول للبعثة؛ فعرضت أن يقف الأسطول البريطاني في عرض البحر لملاقاة الحملة الفرنسية وأنَّه ربَّما يحتاج للتموين بالماء والزاد في مقابل دفع الثمن، لكن السلطات رفضت هذا الطلب.
وتَوقُّع بريطانيا أن تكون وجهة الحملة الفرنسية إلى مصر العثمانية دليلٌ على عزمها على اقتسام مناطق النفوذ في العالم العربي وتسابقهما في اختيار أهمِّ المناطق تأثيرًا فيه، لتكون مركز ثقل السيادة والانطلاق منه إلى بقيَّة المنطقة العربية، ولم يكن هناك دولةٌ أفضل من مصر لتحقيق هذا الغرض الاستعماري.
وصول الحملة الإسكندرية
وصلت الحملة الفرنسية إلى الإسكندرية ونجحت في احتلال المدينة في (18 من المحرم 1212هـ=2 من يوليو 1798م) بعد مقاومةٍ من جانب أهلها وحاكمها السيد محمد كُريِّم دامت ساعات، وراح نابليون يذيع منشورًا على أهالي مصر تحدَّث فيه عن سبب قدومه لغزو بلادهم وهو تخليص مصر من طغيان البكوات المماليك الذين يتسلَّطون في البلاد المصرية، وأكَّد في منشوره على احترامه للإسلام والمسلمين، وبدأ المنشور بالشهادتين وحرص على إظهار إسلامه وإسلام جنده كذبًا وزورًا، وشرع يسوق الأدلة والبراهين على صحَّة دعواه، وأنَّ الفرنساويَّة هم -أيضًا- مسلمون مخلصون، فقال: "إنَّهم قد نزلوا روما وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحثُّ النصارى على محاربة المسلمين"، وأنَّهم قد قصدوا مالطة وطردوا منها فرسان القديس يوحنا الذين كانوا يزعمون أنَّ الله يطلب منهم مقاتلة المسلمين.
وأدرك نابليون قيمة الروابط التاريخيَّة الدينيَّة التي تجمع بين المصريين والعثمانيِّين تحت لواء الخلافة الإسلامية؛ فحرص ألا يبدو في صورة المعتدي على حقوق السلطان العثماني؛ فعمل على إقناع المصريين بأنَّ الفرنسيِّين هم أصدقاء السلطان العثماني، غير أنَّ هذه السياسة المخادعة التي أراد نابليون أن يخدع بها المصريين ويُكرِّس احتلاله للبلاد لم تَنْطلِ عليهم أو ينخدعوا بها؛ فقاوموا الاحتلال وضربوا أروع أمثلة الفداء.
الطريق إلى القاهرة
وفي مساء يوم (19 من المحرم 1212هـ=3 من يوليو 1798م) زحفت الحملة على القاهرة، وسلكت طريقين أحدهما بري وسلكته الحملة الرئيسية؛ حيث تسير من الإسكندرية إلى دمنهور فالرحمانية، فشبراخيت، فأم دينار على مسافة 15 ميلًا من الجيزة، وأمَّا الطريق الآخر فبحري وتسلكه مراكب الأسطول الخفيفة في فرع رشيد لتقابل الحملة البرية قرب القاهرة.
ولم يكن طريق الحملة سهلًا إلى القاهرة؛ فقد لقي جندها ألوانًا من المشقَّة والجهد، وقابلت مقاومة من قبل أهالي البلاد؛ فوقعت في (29 من المحرم 1213هـ=13 من يوليو 1798م) أول موقعة بحريَّة بين مراكب المماليك والفرنسيين عند "شبراخيت"، وكان جموع الأهالي من الفلاحين يُهاجمون الأسطول الفرنسي من الشاطئين، غير أنَّ الأسلحة الحديثة التي كان يمتلكها الأسطول الفرنسي حسمت المعركة لصالحه، واضطرَّ مراد بك قائد المماليك إلى التقهقر صوب القاهرة.
ثم التقى مراد بك بالفرنسيين عند منطقة إمبابة في (7 من صفر 1213هـ=21 من يوليو 1798م) في معركة أطلق عليها الفرنسيون معركة الأهرام، وكانت القوات المصرية كبيرة غير أنها لم تكن مُعدَّة إعدادًا جيِّدًا؛ فلقيت هزيمةً كبيرةً وفرَّ مراد بك ومن بقي معه من المماليك إلى الصعيد، وكذلك فعل إبراهيم بك شيخ البلد، وأصبحت القاهرة بدون حامية، وسرت في الناس موجةٌ من الرعب والهلع خوفًا من الفرنسيين.
نابليون في القاهرة
دخل نابليون مدينة القاهرة تحوطه قوَّاته من كلِّ جانب، وفي عزمه توطيد احتلاله للبلاد بإظهار الود للمصريين وبإقامة علاقة صداقة مع الدولة العثمانية، وباحترام عقائد أهالي البلاد والمحافظة على تقاليدهم وعاداتهم؛ حتى يتمكن من إنشاء القاعدة العسكرية، وتحويل مصر إلى مستعمرة قويَّة يُمكنه منها توجيه ضربات قويَّة إلى الإمبراطوريَّة البريطانيَّة.
وفي اليوم الثاني لدخوله القاهرة وهو الموافق (11 من صفر 1213هـ=25 من يوليو 1798م) أنشأ نابليون ديوان القاهرة من تسعة من كبار المشايخ والعلماء لحكم مدينة القاهرة، وتعيين رؤساء الموظفين، غير أنَّ هذا الديوان لم يتمتَّع بالسلطة النهائية في أيِّ أمرٍ من الأمور؛ وإنَّما كانت سلطة استشارية ومقيَّدة بتعهد الأعضاء بعدم القيام بأيِّ عملٍ يكون موجَّهًا ضدَّ مصلحة الجيش الفرنسي، ولم يكن الغرض من إنشاء هذا الديوان سوى تكريس الاحتلال الفرنسي والعمل تحت رقابة وأعين السلطات الفرنسية.
لقد كانت حملة نابليون على مصر حدثًا خطرًا استهدف الأمَّة الإسلاميَّة في الوقت الذي كانت فيه غافلةً عمَّا يجري في أوربَّا من تطوُّرٍ في فنون القتال، وتحديث أنواع الأسلحة، ونهضةٍ شاملة، وكان نابليون يُمنِّي نفسه باحتلال إستانبول عاصمة الدولة العثمانية وتصفية كيانها باعتبارها دولة إسلاميَّة كبرى وقفت أمام أطماع القارَّة الأوربيَّة، وذلك بعد أن يُقيم إمبراطوريَّة في الشرق، وقد عبَّر نابليون عن هذا الحلم بقوله: "إذا بلغت الآستانة خلعت سلطانها، واعتمرت عمامته، وقوَّضت أركان الدولة العثمانية، وأسَّست بدلًا منها إمبراطوريَّة تُخلِّد اسمي على توالي الأيَّام".
******
بلغ الادارة عن محتوى مخالف من هنا
ابلغون على الروابط التي لا تعمل من هنا